إذا كان للصورة قدرة على تمثيل المكان والحركة والزمان، فهي عبارة تنطبق على فِيلْم ”مدينة الملاهي”؛ حيث المكان (بفضائه المادي والواقعي)، فالتوظيف غير المُعتاد جعل منه مكاناً غرائبياً، إذ هيمن على الصورة، حتى صار عنصراً رئيساً في عملية السرد، وحركة الشخصيات داخل إطار الصورة.
يشدّك ”مدينة الملاهي”؛ من تأليف وإخراج وائل أبو منصور، في أول فِيلْم روائي طويل، منذ المشهد الأول، بقدرته على استدراجك، وإثارة كثير من اهتمامك؛ فعناصره الرئيسة: صحراء شاسعة، محطة بنزين نائية، ملحق بها محل بقالة، وورشة لإصلاح السيارات، على مقربة منها مدينة ملاهٍ.
ومنذ المشهد الاستهلالي للفِلْم، الذي يستعير فيه المخرج صوت الدكتور مصطفى محمود، في برنامجه الشهير “العلم والإيمان”، وهو يتحدث في حلقة “اللغز الفلكي” عن بداية الكون، نُدرك أن لغة الكلام تعطلت بين “مسعود” (محمد سلامة)، و”سلمى” (ندى المجددي)، التي تُرافقه في السيارة، حديثة الطراز، إلى وجهة غير معلومة، قادمة من مكان مجهول، وأن ثَمَّة خللاً، لا نعرف كنهه، يعتور العلاقة بينهما؛ فالتعتيم جزء من الإثارة التي يُسبغها الكاتب / المخرج على الأحداث، التي تبلغ ذروتها عقب توقف السيارة في الصحراء، التي تبتلع البشر، وتحيلهم إلى مُهمشين، ما يضطر “مسعود” إلى أن يترك زوجته، وحدها، ليبحث عمن يُصلح السيارة، ويعثر على ضالته بالفعل في شخص الميكانيكي “سفيان أبو طاقية” (نايف الظفيري) الجاهل، العدواني، حاد الطباع، الذي يسعى للسيطرة، صوَّره السيناريو؛ بشعره الأشعث، ولحيته الكثة، وتجهمه الدائم، وكأنه عضو في جماعة دينية متطرفة، لكن تناقض شخصيتيهما لا يمنعهما من الاتفاق على إصلاح السيارة، نظير مبلغ مادي باهظ، شريطة أن يتسلمها “مسعود” صبيحة اليوم التالي، ما يضطره إلى تمضية ليلته بعيداً عن زوجته!
هنا لا بدّ أن تدفعك عوامل عدة لعدم استساغة هذه الجزئية من السيناريو (“مسعود” يرتضي تمضية الليلة من دون زوجته “سلمى” التي يتركها وحيدة في الصحراء!)؛ أولها: أنه لم يفكر، ولو لحظة قبل اتخاذ القرار، ثانيها: كيف لصحراوي تأصل على صفات الرجل الشرقي؛ كالنخوة، والشهامة، أن يترك زوجته طوال هذا الوقت من دون أن يهرع للاطمئنان عليها؟ ثالثها: أنها لم تخطر على باله، وعلى بال الكاتب / المخرج، فيتذكراها بمشهد واحد. أما رابعها فيتمثل في علم جميع الشخصيات، بمن فيهم البقال والميكانيكي، أن “مسعود” ترك زوجته وحيدة في الصحراء مترامية الأطراف، من دون أن يقترح أي شخص مساعدته في إحضارها لتُقيم الليلة معه!
لا يُجيبك المخرج على أسئلتك القلقة، لأنه تعمَّد هذا لعاملين أيضاً؛ أولهما أن يدفع، أو يورط، بطله “مسعود” في استكشاف العالم الغرائبي، للمكان السريالي، العبثي والمُريب، وكذلك الشخصيات الغامضة، التي لا تقل إثارة عن المكان، وثانيهما أن يُتيح الفرصة للزوجة “سلمى” كي ترى جانباً آخر من الحياة غير الذي اعتادت عليه مع زوجها؛ بدليل أنه عندما عاد بالكاميرا إليها نجدها، هي الأخرى، في شاغل يلهيها عن زوجها؛ وكأنها وجدت نفسها في عالم “ليلى” (سارة طيبة)، والشباب، الذين يسكنون خيمة صحراوية مجاورة، ويعيشون الحياة التي حُرمت منها، وتوقن أنها لم تعشها مع “مسعود”.
وفي سياق هذه الرؤية كان لا بد أن يذهب “مسعود”، في الموعد المُحدد لاستلام سيارته، فلا يجدها، ولا يجد “سُفيان”، وتبدأ رحلة استكشاف البشر والمكان؛ مثل: “مختار”، صاحب محل البقالة الوحيد في المكان، المتدين، المحافظ، الجاهل، ورغم هذا يسعى إلى فرض قيمه، التي يؤمن بها على من حوله، و”ياقوت” (عبد الإله القرشي)، الصعلوك، الذي يؤمن أن البقاء للأقوى، ومن ثم يعمل لحساب “سفيان”، ويُدير عالمه الخفي والمشبوه؛ حيث الاتجار بالبشر، والتربّح من العابرين والمُشرّدين، وعابري السبيل، مثلما يكتشف “مدينة الملاهي”، والفندق المُقتطع منها، وتصل الإثارة إلى ذروتها مع شعور “ياقوت” اليقيني أن “مسعود” يتلصص عليه، ويبدو وكأنهما تحولا إلى “قط” و”فأر”، ويُبلغه في ما يُشبه التهديد والوعيد أن “الفضول قتل القطة”، فيضطر “مسعود” إلى شراء “كارافان”، وعندما يتحول التهديد إلى حقيقة، ويُفصح “سفيان” عن وجهه القبيح، ويُلقنه علقة قاسية، يعقد “مسعود” النية على مغادرة المكان، والعودة إلى زوجته، مُحطماً، مهزوماً، يجر أذيال خيبته، ويواصل رحلته، وفي الحلق غُصة.. وفي النفس مرارة!
إذا كان للصورة قدرة على تمثيل المكان والحركة والزمان، فهي عبارة تنطبق كثيراً على فِلْم “مدينة الملاهي”؛ حيث المكان (بفضائه المادي والواقعي)؛ سواء الصحراء، الورشة، محل البقالة المتواضع، النُزل الأكثر تواضعاً، المصلى، محطة البنزين ومدينة الملاهي، فالتوظيف غير المُعتاد جعل منه مكاناً غرائبياً، بل بطلاً للتجربة المُدهشة؛ إذ هيمن على الصورة، حتى صار عنصراً رئيساً في عملية السرد، وحركة الشخصيات داخل إطار الصورة، أما الزمان فلا يمكنك تحديده، وإن كنت تلمح صداه في السيارة حديثة الطراز، والحائط الذي لم يكن مجرد حائط كتبت عليه عبارات عشوائية أو مجرد رسوم جرافيتية، تُسجل للذكرى؛ بل كان أقرب إلى بلاغ للرأي العام يبث شكاوى وأنين المُعذبين (تأمل العبارات والشكاوى المكتوبة: حسبي الله، وصف سفيان أبو طاقية بـ “أبو كلب”، الحنين إلى الديار البعيدة، شباك الحبيب، المليح الذي لا يروح، الإشارة إلى ترحيل الأنفار.. وكله قضبان!).
هكذا فعل؛ ليكتمل الشكل غير المألوف، الذي يمكن أن نُطلق عليه “غرائبي”، والذي تنطق به كل تفصيلة في الفِلْم؛ فضلاً عن الحضور المتوهج لثنائية الصورة والمكان (منسق المناظر فارس العشي)؛ فالصورة ليست مجرد تجسيد للمكان، بل تُعيد إنتاجه، وتقدِّمه في شكل أقرب إلى ما يُطلق عليه “الجغرافيا السحرية”؛ عبر عدة محاور؛ كالقصة المبتكرة، البنية السردية الشيقة والأخاذة، وإن بدت “أرسطية تقليدية”، في الظاهر، فإذا تأملناها، بدقة، نتبين أنها قفزت فوق الواقع لتُبدع بيئة متخيلة؛ بفضل المعالجة البصرية (تصوير: مدير التصوير الهندي ساشانك سانا، وإضاءة: مدير الإضاءة رودريجو أوبريجون أوبيديا وجيليرمو حجاب)، والرسائل غير المباشرة؛ التي تتحدث عن المشكلات التي يموج بها العالم، وتُحرض على التمرُّد (حائط الأنين والشكوى ورجل الدين “أبو محمود” (محمود تراوري)، الغارق لأذنيه في شؤون الزاوية من دون أن يتدخل ليصوِّب الأوضاع، أو يستنكر الشر، ويواجه الأشرار)، ليبقى التمرد سمة للفِلْم، وإن بدا غير مُعلن، والحال نفسها مع بقية العناصر، التي تضافر فيها الشكل، والمحتوى، ليُطلقا العنان للمخرج، ويُحرراه من قيود السلطة، والواقع، مثلما ضمنا الحرية لخيالنا، ومشاعرنا، وطرحا مفاهيم جمالية، في محاولة لإعادة تعريف الإحساس بالحياة والأشياء بعيداً عن رتابة الاعتياد.
”مدينة الملاهي” عمل سينمائي جعل من كاتبه ومخرجه وائل أبو منصور، مفاجأة بكل المقاييس؛ كونه صاحب أسلوب خاص، ووجهة نظر متفردة، وقدرة على الاختزال؛ سواء على صعيد الحكي، أو اختيار أبطاله وشخوصه، حسب الحاجة بالضبط، ووعيه في ما يتعلق بالتركيز على فكرة “الزمن الباهت” و”الجمال الزائل” (الملاهي المرتبطة في الأذهان بمكان ومعنى الفرح، اللهو، الترفيه والترويح عن النفس، أصبحت مكاناً لتهريب البشر والاتجار بمصائرهم وحيواتهم) بما يجعل الحنين يؤرقنا، ويشدنا، إلى استعادة معاني الفرح، التي قتلت وانتهكت، وأعدمت، وحل مكانها عالم قاسٍ وموحش، وهي الرسائل الإنسانية الجميلة، التي تبنَّى المخرج تقديمها بأقل عدد من اللقطات (مونتاج: شاهيناز دليمي)، وبكاميرا رصينة لا تعرف الطيش ولا استعراض العضلات بهدف الإبهار المجاني، والتوظيف الفاهم للموسيقى (مايك وفابيان كورتز)، والاختيار المتميز لأغاني الصحراء (“الحب المفضوح” و”أنا مالي ومالي”، كتابة وأداء: البُعد التاسع، والموسيقى الافتتاحية لأغنية “شفت”، كتابة: الأمير محمد العبدالله الفيصل، وألحان الموسيقى: سراج عمر، أداء الفنان: علي عبدالكريم)؛ بحيث روى قصته بإبداع، كما أوصل عالمه (المكان والشخصيات) بشكل حبَّبنا فيهم، ووحدنا معهم، وبإيقاع شديد التكثيف، بينما جعل من فِلْم “مدينة الملاهي” مغامرة فنية، الصدق والطموح هما جناحيها.