في الرؤيا التي كانت سببًا لمشروعية صفة الأذان، قال عبد الله بن زيد رضي الله عـنهما: “لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم فأخبرته بالرؤيا، فقال: “إن هذه لرؤيا حق، فقم مع بلال فإنه أندى وأمد صوتاً منك فألق عليه ما قيل لك، وليناد بذلك” ثم كان بلال رضي الله عـنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلـم، وبذلك عرف.
في هذا الأثر فقهيات كثيرة إلا أننا نريد الحديث عن شيء واحدٍ منها، ذلك هو معرفة رسول الله صلى الله عليـه وآله وسلم بإمكانات بلال الصوتية، ووضعها في قائمة اهتماماته، حتى جاء الوقت لإظهارها والدفع ببلال ووضعه في موضعه الصحيح الذي عرف به، إضافة إلى ما كان يقوم به من سائر أعماله، إلا أن هبة الأذان عرف بها وعرفت به إلى أن توفاه الله رضي الله عـنه، ولم يعترض على هذا الإجراء من رأى الرؤيا، بحجة أنه الأولى أو حجة حقوق الملكية، لأن ذلك كان برضاه وبإرشاد وأمر رسول الله صلى الله عليـه وآله وسلم، وهو سيد العارفين بمن هو أحق من الآخر، رغم أن هذه الحقوق معتبرة في عصرنا، لكن وللأسف جرى أكثر المبدعين من الكتاب والمؤلفين والمنتجين والمخرجين وغيرهم على إهدار مواهب الآخرين بسبب جنون الشهرة، وحب التكسب والاستكثار المادي!
فعلى سبيل المثال تجد صاحب فكرة دراما أو قصة، وغير ذلك، تجده يريد القيام بدور الإخراج، ويكون هو المنتج، ويكون هو المنفذ، وأكثر من ذلك يريد أن يقوم بدور المُقدم للفكرة إعلاميًا، فإن كان الأمر يحتاج أداءً جماعيًا، استعان بأقاربه ومقربيه حفاظًا على حصر ثمرات الإبداع في ملكيته!
وهذا يجري ليس في الإبداع الفني والأدبي والثقافي، حتى في ما هو أهم من ذلك من الإبداع الصناعي والتكنولوجي واختراعات العصر، قد تجد من يسلك هذا المسلك من محاولة الاستئثار بالإبداع في دائرة “مقربيه” فربما يعلم أن ابن جاره أو ابن فلان من الناس أكثر ذكاءً وأهلية في هذا الباب من ابنه أو ابنته، وبالإمكان استغلال موهبته، لكن ثم شيئًا في النفوس يمنع، لم يكن معهودًا في الرعيل الأول من المبدعين، فقد كنا وإلى زمن قريب نسمع ونرى ونقرأ في الدراما والمسرحيات والأفلام مثلاً “إخراج فلان” ولكننا لا نرى هذا المخرج يقوم بأي وظيفة أخرى رغم إمكانية ذلك له، وربما لا تعرف صورته، فإن إمكانية الجمع بين المواهب المتعددة في كثير من الأحيان يكون مانعًا ومهدرًا للمواهب المؤهلة في المجتمع ونقصًا في الأداء والإبداع، فإن المجهود المفرق والموزع في عدة اتجاهات ليس كالمجهود المكرس والمحدد لعمل من الأعمال، فكيف إن كان هذا الشخص لا يحسن تلك المواهب المتعددة، إلا أنه يجمعها لشيء في نفسه.
هناك عقول عظيمة تولد مهيئة للإبداع والعطاء، وربما أصبحت تلك العقول هي العائق والحجر العثرة في طريق بناء الوطن، وذلك لسبب أنها لم تستغل ولم تدفع في طريقها الصحيح، والعقل المبدع حين يسير في غير طريقه، ستجد حتمًا طريقه الحقيقية يشغلها أناس آخرون لا يؤدون ما كان سيؤديه.
نحتاج في مجتمعاتنا الاهتمام بالمواهب من صغرها، وتوجيه الأجيال من مهدها بحسب هواياتها وإمكاناتها الذاتية، ولعل مراكز رعاية المواهب أن تتكاثر، وتتلقف المدارس والمناهج المخصصة للموهوبين في مجالات الحياة المتنوعة، وتتولى إعداد مؤهلين ومخصصين يلتقطون المبدعين والمواهب من مراحلهم الأولى في الحياة، ولعل هذا موجود في الفن الرياضي إذ يسعى السماسرة والمدربون لالتقاط المواهب الصغيرة وتبنيها لتصبح ركائز للأندية والمنتخبات.
ولعلنا في هذا العهد الميمون نكون أكثر جرأة في تبني مواهب أغفلت في زمن سيطرة الفكر الأحادي، ونترك “الاستحواذ” الإبداعي وحصره في فئات وأشخاص من الناس، فإن الأوطان مشتركة للجميع ويجب أن تبنى بأيدي الجميع، ولن يبني الأوطان أحد أكثر من مبدعيها ومفكريها كل في فنه، وما وهبه الله من تميز، ولنا في رسول الله صلى الله عليـه وآله وسلم أسوة حسنة. هذا، والله من وراء القصد.
نقلا عن الرياض