مؤخرا كثر ظهور بعض المشاهير الناشطين من ذوي الثروات خرافية الأرصدة على مواقع التواصل الاجتماعي بتقديم بعض الوهم لشبابنا، والتغرير بهم لترك وظائفهم، لإضفاء الشعور بالحرية والانطلاقة بلا قيد، بحسب وصف بعضهم، للوصول إلى المكاسب المليونية. المشكلة ليست هنا، فمن حق كل أحد أن يبدي رأيه ويطرح أفكاره، لكن المشكله تكمن في استضافتهم في قنوات تلفزيونية مؤثرة وذات حضور مجتمعي، ليتحدثوا عن الوظيفة الحكومية، أو الخاصة، باعتبارها سجنًا يجب الخلاص منه بسرعة، والالتحاق سريعا بالعمل خلف شاشة كمبيوتر، حتى وإن كان الاقتراض غير المدروس ضريبة للمجازفة، على طريقة بعض كتب التنمية البشرية وتطوير الذات، التي تسعى للربحية من بيع عدد نسخها، من دون تحمل نتائج العمل بها، خصوصًا أنَّ أغلبها يستعرض النظريات بطريقة غير علمية، أو واقعية.
قصص النجاح في العمل الخاص، ليست كلها كما يظهرها أصحابها بسهولة الحكاية، هناك أسرار لم تحك، والمبالغ الضخمة التي تحدثوا عنها مؤشر خطير في صناعة القدوة الوظيفية، قد تغير مسارات جيل ما زال يؤسس نفسه ليستطيع خوض غمار الحياة.
وفي الوقت الذي تطوَّرت الوظائف ومفهومها، وانحسر العيب والركن للعادات والتقاليد عن العمل في كثير من المهن الخاصة، التي عمل بها شباب مقبلون على الحياة بمنتهى الجدية، مع الاستعداد للتعب الحقيقي، بمزيد من الجهد، ليحققوا أحلامهم بواقعية.
خرج علينا في رمضان هذا العام، ما أثار الكثير من الجدل حول، مفهوم «المؤثر على السوشال ميديا»، هذا المسمى الجديد نسبيًا، ولا نعرف وظيفة هذا المؤثر أو مؤهلاته، حتى يكون مؤثرا، ولماذا يصبح كذلك، وأي منحى من مناحي الحياة يؤثر فيه، ليتحدث أكثر من واحد منهم عن مكاسبه السنوية المليونية، من وراء التجارة الإلكترونية، ولا نعرف أي نوع من التجارة، يدخل هذه الملايين في أشهر معدودة، من دون الدخول في تفاصيل تساءل عنها المتابعون، مثل الدعم العائلي الخفي، والتسهيلات والعلاقات القوية الداعمة للوصول إلى مثل هذه الأرباح خلال أشهر فقط بعد الاستقالة، حتى لا تكون أحاديثهم من باب التحريض على التشرد، وربَّما السجن، بعد اتخاذ قرار متعجل غير مدروس، مثل الاستقالة، والحصول على قرض لا يعرف كيف يسدده؟.
وعلى الرغم من الانتقادات التي طالت هؤلاء المؤثرين الافتراضيين، غير المؤثرين في الواقع، إلا سلبًا، أو لمصلحته الشخصية فقط، إلا أنَّ كثيرًا من المتابعين سواء من الشباب أو المتخصصين، وجَّهوا الأسئلة المباشرة، عن مصدر هذه الملايين، وهل مطلوب من كل شاب ترك وظيفته، الجلوس خلف شاشة الكمبيوتر، لممارسة عمله الحر، سعيًا وراء الملايين، متهمين أصحاب هذه الحكايات بإحباطهم، أو تحريضهم لاتخاذ قرار ليس سهلًا، خصوصًا، وأن أغلب الشباب الآن تطورت نظرته للعمل عمومًا، ولم يعد لمفهوم العيب الذي كان يعتبره الشباب حاجزًا بينه وبين العمل في بيع القهوة والشاي ومطاعم الوجبات مثلًا، أو الورش، أو العمل المهني عمومًا.
لذلك كان من المستفز لكثيرين خروج أحدهم في مقطع فيديو متداول على «تويتر»، يتحدث عن استقالته من وظيفته، وتوجهه إلى العمل الحر، وبعد أشهر معدودة أصبح راتبه عشرة أضعاف ما كان يتقاضاه في الوظيفة قبل!
وآخر يتحدث عن دخله السنوي الذي يتجاوز الـ 40 مليون ريال، من «سناب شات»، وغيره الكثير من «مؤثري السوشال ميديا»، يظهر بنفس تحريضي لحث الشباب على ترك الوظيفة، والجلوس خلف أجهزة الكمبيوتر، للسعي ليكون مؤثرًا، أو«مدمرًا» ومن أصحاب الملايين، في حرب خفية تحت الجلد، إذ يسعى بعضنا لهدم أهم ما فينا، وهم الشباب، ولا نعرف الأهداف وراء خروج أمثال هؤلاء في هذا التوقيت بالذات وتقديم الشاشات الكبيرة لهم ودعمهم إعلاميا بإشهارهم. كمية الاستغراب التي تملأ مساحات حيرتنا تجعلنا نتساءل.. ما هو تفسير القائمين على القنوات التلفزيونية لهذا الاحتضان الإعلامي الذي أصبحنا نشفق ونخاف على شبابنا منه، ومن تبعات الاستماع إليه.
فهذه الدعوات التحريضية، وهذه المكاسب المليونية محبطة للشباب الجاد المتخرج بدرجة امتياز في مجاله العلمي، ويواصل السعي لخدمة وطنه بالمزيد من الجهد لنيل أرفع الدرجات العلمية لينفع بعلمه بلاده وأبنائها، ويكون مؤثرًا حقيقًا بعلمه وعمله التراكمي.
الجدية والتحصيل والاستعداد واستثمار الفرص، هو الأهم، في الوقت الذي يدرك ذوو العقول أنَّ الشهرة، مهما كان لها مردود مادي كبير، فهو مؤقت، سرعان ما يزول، مع تقدم العمر، وانحسار الأضواء، وأكبر مثال على ذلك بعض الفنانين، ولاعبي كرة القدم الذين اعتمدوا على الشهرة وقت بلوغ قمتها، ونسوا أن يقفوا على أساسات قوية تسندهم عندما يكبروا ويصل غيرهم إلى قمة بلغها هو قبله فهوى من علو. حتى لا يصنع هؤلاء في مجتمعنا مشكلات تمتص طاقات نماء وطننا يحتاجها أكثر من حل تبعيات تأثيرهم السيئ، علينا توجيه الشباب إلى العمل الخاص، أو القطاع الخاص، جنبًا إلى جنب مع العمل الحكومي الداعم لرؤية المملكة 2030، لكن بالإعداد الجيد، واكتساب الخبرة، وعدم تصديق قصص النجاح السريع بدون أسس، فهناك أسباب للنجاح، وأسباب لمواصلته.
وآخر أسئلة الاستغراب، من يقف وراء خروج هؤلاء المؤثرين المتحدثين عن ملايينهم في هذا التوقيت بالذات، لإحباط شبابنا، وإعلان الحرب المباشرة على القدوة الوظيفية التي نسعى جميعًا لتوريثها، حرصًا على مصلحة هذا الوطن.
نقلاً عن “الوطن“