يجتهد المؤرخون والمدونون في كتابة وقائع التاريخ وأحداثه، وهم مع هذا الاجتهاد يقعون – ربما عن غير قصد – في أخطاءٍ أو مبالغات لا يقبلها قارئ التاريخ المتفحِّص لوقائعه وأحداثه. ومما شاع وتردد كثيرًا بين الناس هو أن الشرك كان يُطْبِق على أرجاء الجزيرة العربية كافة، وخاصة أجزاءها الداخلية، ممثلة في نجد، وأن التوسُّل بالأضرحة والأشجار كان يجد له رواجًا بين الناس، حتى ظهر الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – وصَدَع بدعوة التوحيد التي قاومت تلك الشركيَّات والخرافات المتفشية، ثم تحالف بعد ذلك مع الإمام محمد بن سعود – رحمه الله -.
في البدء ينبغي التأكيد والتسليم بوجود (بعض) الشركيات والبدع في الجزيرة كافة؛ وليس في نجد وحدها، وينبغي التأكيد على أهمية دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ووجاهتها، لكن الأمر الذي يحتاج لإعادة النظر فيه وتصحيح بعض المفاهيم المرتبطة به هو: (لغة التعميم) بتفشي الشركيِّات والبدع والخرافات في الجزيرة العربية – وخاصةً نجدًا – وكأن الجزيرة – وقتَها – كانت تسبح في بحر من الشركيِّات، وكأنها لم تكن تحتضن الحرمين الشريفين؛ موطنَي الرسالة المحمدية والتوحيد الخالص، وكأن نجدًا لا يوجد بها علماء ولا فقهاء ولا مظاهر للإسلام وشعائره.
منذ فترة بعيدة والآراء بين مد وجزر وجدل مستمر حول حقيقة (الانتشار الواسع) للشرك وعبادة القبور والأضرحة في جزيرة العرب قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتحالفه مع الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، وكان السائد وقتذاك أن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب قامت فقط (لمحاربة تفشي) الشرك ومظاهره، في الوقت نفسه تؤكد المصادر على أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب حفظ القرآن وقرأ على أبيه الفقه، وأن أباه كان قاضيًا في عدة بلدات نجدية، وأن الشيخ سافر إلى مكة والمدينة والأحساء لتلقي العلم والجلوس إلى علمائها، ولا أدري كيف نُوفِّق بين النظرة السائدة عن تفشي الشركيات في جزيرة العرب؛ وما قيل عن تعلم الشيخ في عدة محاضن دينية في نجد وغيرها وعن فقه أبيه وفقه علماء عصره في عدة مدن وبلدات في الجزيرة العربية؟. لعل في حديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الأخير لمجلة أتلانتيك الأمريكية ما جلَّى هذه الإشكالية؛ فسموّه يُؤكِّد في حديثه على أن «الشيخ محمد بن عبدالوهاب، هو كسائر الدعاة وليس رسولًا، بل كان داعية فقط، ومن ضمن العديد ممَّن عملوا من السياسيين والعسكريين في الدولة السعودية الأولى»، إذن لماذا كل هذا (التضخيم) لحالة الشرك في جزيرة العرب؟. تأتي الإجابة الحاسمة من سموه حين يُؤكِّد على أن «المشكلة في الجزيرة العربية كانت آنذاك، أن الناس الذين كانوا قادرين على القراءة أو الكتابة هم فقط طلاب محمد بن عبدالوهاب، وتمت كتابة التاريخ بمنظورهم، وإساءة استخدام ذلك من متطرفين عديدين»، وعلى هذا يتبيَّن السبب في المبالغة في توصيف حالة الشرك في جزيرة العرب. ثم جاء المؤرخ راشد بن عساكر ليُؤكِّد في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط – عن حالة الجزيرة على عهد دعوة الشيخ محمد بن بعبدالوهاب – على أنه «تبين بالبحث التاريخي أن ذلك غير صحيح وغير دقيق؛ فالبلاد ينقصها توحيد الجانب السياسي، فالدين موجود وقائم قبل ذلك بالتعاليم الدينية والمذهب الحنبلي المنتشر والمعتمد على الكتاب والسنة»، وقد أورد عددًا من الأدلة والأرقام والوثائق التي تؤكد على وجود الوعي الديني والثقافي في نجد. هذه الجدلية تعيدنا إلى قبل حوالى تسع سنوات عندما خرج لنا الدكتور خالد الدخيل بكتابه (الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة)، وأحدث حينها حِراكًا فكريًّا، وزعزع بعض المفاهيم والأفكار؛ فهو يُؤكِّد أيضًا على أنه «ليس بين المعطيات المتوافرة عن تاريخ ذلك المجتمع ما يُؤيِّد أن الشرك كان منتشرًا بين سكانه في القرن ١٢هـ»، ثم يُؤكِّد على أن «عامل الشرك الذي يتم استحضاره من وقتٍ إلى آخر ليس له حقيقة تاريخية يمكن الانطلاق منها لكتابة تاريخ الحركة وتاريخ الدولة»، ليصل في المحصلة إلى أن (فرضية الشرك) لا تصمد أمام التحقيق والتدقيق.
نقلاً عن “المدينة“