ارتكز مفهوم “التواصل الحضاري بين الثقافات”، مثلما يؤكدان عليه، جان رينيه لادميرال، وإدموند مارك ليبيانسكي، على الاهتمام الخاص “بالعلاقات التي تنشأ بين الأشخاص أو الجماعات المنتمية إلى ثقافات مختلفة”. ويمكن فهم هذا “الاهتمام” على أنه مؤشر لظهور قضايا الهُوية والاندماج في المجتمعات التي تستقطب أكثر عدد من المهاجرين. إلا أن سياق التواصل الحضاري ظل، ولا يزال، يفتح أبوابه لنشر الثقافات المتنوِّعة، وترسيخ مفهوم قبول الآخر باختلاف ثقافته.
في 2017م، قال رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون: “لا توجد ثقافة فرنسية، بل توجد ثقافة في فرنسا، فهي متنوِّعة ومتعدِّدة”.
وكان يريد أن يقول بذلك إن الجاليات المتنوِّعة التي تعيش في فرنسا، هي التي تشكِّل فسيفساء الثقافة الفرنسية بتعدد مشاربها. ففي المجتمعات المتنوِّعة، تأتي الأولوية للتفاعل المتناغم والاستعداد للعيش المشترك وقبول الآخر وثقافته وموروثه الحضاري. فالأفراد والجماعات ذات الهُويات الثقافية المختلفة والمتنوِّعة تُنشئ منظومة متحركة تتفاعل مع القيم والعادات والثقافات في سياق اجتماعي واقتصادي يحرك الديناميكية الاجتماعية التي تكون في الوقت نفسه متعدِّدة ومتنوِّعة. فأي اكتساب ثقافي جديد هو هُوية. والمقاربة “الهُوياتيّة” المتعدِّدة تسمح من ناحية، بتشكيل رؤية أكثر واقعية لهويتنا وثقافتنا، ومن ناحية أخرى، الانفتاح على ثقافة الطرف الآخر بمعاييرها وقيمها.
انتقلت الثقافة العربية إلى أقطار الغرب الأوروبي عن طريق الرحلات التاريخية والتبادلات التجارية، وعرف الغرب التراث العربي من خلال عديد من النصوص المترجمة، فكانت “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة”، وغيرها من النصوص، مرآة للأنساق التراثية والقصصية المتداولة عند العرب، ومنها انزاح الغرب نحو تراث وجدوا فيه الإتقان والرفاهية، ولمسوا من خلال الواقع صورة مجتمع لم يعرفوه من قبل.
في حديث خاص مع الكاتب والمترجم الفرنسي أندريه ميغال، أجرته إحدى المجلات الفرنسية بعد صدور كتابه “محاورات بغداد” في عام 2012م، وسألته عن سبب اهتمامه الكبير بالعالَم العربي وترجمة نصوصه الأدبية، فرد قائلاً: “إنّ العرب ظلوا أسياد العالم لمدة قرن ونصف القرن من الزمن، وظلت ثقافتهم تستقطب اهتمامنا نحن الغرب، فهم نقلوا لنا التوابل والحرير والأنسجة بمختلف أنواعها، ولقنونا فن طهي أطباق مجهولة لدينا”.
اعتراف عدد من المستشرقين الفرنسيين بمدى تأثر الغرب بالفنون الثقافية العربية، كالطهي، يؤكد عليه اهتمام الغرب بما احتوته الكتب العربية المترجمة. فكتاب “ألف ليلة وليلة” الذي ترجم أول مرَّة في العام 1700م، من قبل المستشرق الفرنسي أنطوان غالون، غيَّر كثيراً من العادات الفرنسية الجماعية منذ ترجمته. فعلماء الأنثروبولوجيا يرون أن الرواة في كتاب “ألف ليلة وليلة” اهتموا بوصف الأطعمة وموائد الأكل. وهي صورة اعتيادية للحياة الواقعية، رغم ما توحيه صورة مجالسة شهرزاد لشهريار وقصصها المحكية من بذخ وترف.
وحاولت كثير من الدوائر الثقافية الفرنسية محاكاة تلك الأطباق والموائد وتنوّعها في مجالس الملوك وفي ساحات حدائق فرساي. ولعل تخليد صورة الشخصيتين المحوريتين شهرزاد وشهريار في لوحة فنية بريشة الفنان فريناند كيلر عام 1880م، دليل على إعجاب الغرب بالتراث العربي.
تأثير كتاب “ألف ليلة وليلة” على الحياة في الغرب لا يزال قائماً إلى يومنا هذا، فقصص شهرزاد لم تكف عن تأجيج الخيال الجمعي الغربي. وما السمفونية التي حملت اسمها للموسيقار نكولاي ريمسكي كورساكوف (Nikolai Rimski-Korsakov) أو القصص التي تمثلها Chagall وDulac إلا دليلاً على التأثر بالتراث العربي، فأصبح حديث المجالس العائلية والتظاهرات الثقافية والفنون، بل امتد الإعجاب لأطفال المدارس الذين انبهروا بمغامرات سندباد البحر، وعلاء الدين والمصباح السحري، ومغارة علي بابا، وغيرها. فجسد التواصل الحضاري بين الثقافات الغربية والشرقية، صورة الجسر الممتد عبر التاريخ بين ضفتين تبحثان عن كل ما يطوِّر الذائقة الثقافية لدى المجتمعات والشعوب.
اعتبر علماء الأنثروبولوجيا أنه لولا التواصل الحضاري بين الثقافات لما وصل تراث المشرق إلى الغرب، ولولا قوافل التجارة لما عرف الغرب التوابل وأنواعها مثل الزعفران، والزنجبيل، والكركم، وغيرها.
فالظاهرة الثقافية تاريخية، ترافق تطور الإنسان وتشكِّل أيضاً أسلوب حياته. فتفسير التشابه الثقافي الكبير بين الأمم يعود إلى التواصل أو”الاقتراض” الذي حدث في التاريخ من خلال الاتصال.
ولأن الثقافة تأتي من أصل مشترك. يرى عالم الأنثروبولوجيا الألماني F. Graebner، أن “المسافة بين منطقتين ثقافيتين لا يمكن أن تمنع التواصل الحضاري بين الثقافات سواء أكانت هذه المناطق قريبة أم بعيدة، بسبب وجود موجة ثقافية عابرة للحدود”.
التاريخ بين الفرنسيين والعرب ليس جديداً. يمكن إرجاعه إلى القرن الثامن مع دخول المسلمين إلى الأندلس، في طريقهم عبر بلاد الغال للوصول إلى بواتييه، عبر ناربون أو نيم. وقد ترك هؤلاء الفاتحون آثاراً أصبحت تُعد ضمن التاريخ الفرنسي.
ومن الواضح أن الاحتكاك الفرنسي بالعرب، سواء من خلال الفتوحات أم من خلال حملات الاستعمار، قد خلّف آثاراً في مجالات عديدة، منها الآثار اللغوية. فالقاموس الفرنسي، يَعُد كثيراً من الكلمات الفرنسية المشتقة من اللغة العربية، على سبيل الذكر ولا الحصر (قطن – coton، طبيب – toubib، سكر – sucre..). مما جعل العربية المصدر الثالث، بعد الإنجليزية والإيطالية، الذي تقترض منه اللغة الفرنسية قاموسها. ومنها مئات المفردات المستعملة يومياً، وهي اقتباسات صنعها الفرنسيون من العربية من خلال قنوات مختلفة.
يتطلب التواصل الدائم بين الثقافات المختلفة، الانفتاح على الآخرين وخلق المعاملة بالمثل في التبادلات، الأمر الذي يؤدي بالطبع إلى إثراء الثقافات المعنية. وبالتالي، فإن مفهوم التنوُّع الثقافي يزيد من فرص فهم أنفسنا من خلال فهم الآخر: فنحن لا نلتقي بثقافة، بل أفراداً ومجموعات تقدِّم ثقافة.
د .أسماء فرنان
مسؤولة الترجمة في دار بونييه و كو في فرنسا