بعد مضي يوم من الاحتفال بما يقارب ثلاثة قرون على تأسيس الدولة السعودية، كل ما يمكن أن نخشاه هو الوقوع في فخ الاحتفالية والفرح المستحق بلا شك وننسى الاستحقاق الذي ترتب على هذا اليوم الكبير، وحتى لا نكون قد ذهبنا إلى موقع الحفل وعدنا من هناك مسرورين مبتهجين تاركين خطة المستقبل وكيف سيكون شكل السعودية في قابل الأيام، علينا أن نستشعر عمق ومفصلية هذا التاريخ في مسيرة إنسان السعودية ومحيطه العربي، ولماذا اختارت القيادة السعودية الاحتفال به، ووجدته حقاً حان تعظيمه وتفعيل مكامنه.
أولاً: يجب إعادة قراءة شخصية القائد الملهم الإمام محمد بن سعود، هذه الشخصية التاريخية العبقرية التي التقطت أهم منعطف في تاريخ الجزيرة العربية، بعدما تم إهمالها لأكثر من ألف عام فضلاً عن عزلة قسرية لما يزيد على 5000 آلاف سنة بسبب جغرافيتها وطبيعتها القاحلة.
لقد فهم أمير الدرعية الشاب محمد بن سعود أن البيئة الشعبية الحاضنة في طول الجزيرة العربية وعرضها نضجت، وأدركت أهمية بناء مشروع دولة مركزية، تستطيع أن تحقق معادلة مفقودة هي «الحكم العادل الرشيد»، تفرض الأمن والأمان، وتعتق الناس من أمراء محليين كل همهم استقطاع الأموال وفرض الرسوم، بل وتصبح حياتهم وأموالهم عرضة لمزاجية أو قبلية أو فئوية أو عنصرية.
ثانياً: فرض هيبة الدولة على فضاء نجد والجزيرة العربية، بعدما بقيت لمئات السنين مجرد فلال تعمها الفوضى والفقر والجهل، ويسيطر عليها قطّاع الطرق والسرّاق والنهابون ماعدا بعض الحواضر الصغيرة ومنها إمارة الدرعية التي أسسها العام 850هـ، والتي كانت نموذجاً للمدينة الإمارة.
ثالثاً: الانتقال بالحكم من الشكل العفوي الأبوي العشائري، إلى الشكل المركزي، الذي استلهم مقومات الدول ووظفها على النحو التالي:
بناء عاصمة واحدة جاءت إثر توحيد الأمير محمد بن سعود للدرعية بشطريها.
تأمين طرق القوافل لضمان النشاط الاقتصادي وما يتبعه من ازدهار.
تحويل الدرعية إلى سوق مركزية في نجد.
تأمين طرق المواصلات القادمة باتجاه الشمال والجنوب والغرب والشرق.
تأمين طرق الحجاج الذين يمرون عبر نجد باتجاه الحرمين وعودتهم منها.
وأخيراً إطلاق الحركة العلمية باحتضان ودعم الحركة الإصلاحية تحت غطاء الدولة وحمايتها.
رابعاً: بناء النموذج المدني في إدارة المكونات البشرية المتنوعة بأسرها وقبائلها ومذاهبها الفقهية في الجزيرة العربية، وليس النموذج العنصري الذي كان سائداً في بعض النواحي والإقليم.
لقد كان بناء السعودية الأولى العام 1727م، إطلاقاً لحركة استقلال عربية حقيقة وانعتاقاً من حالة اللا دولة والفوضى العارمة، وإحلال الدولة المنظمة مكانها.
تأسيس إمارة الدرعية المستقلة نواة الدولة السعودية، سبق على سبيل المثال تأسيس الدولة العلوية الألبانية في مصر العام 1805 بحوالى 78 عاماً، ثلاثة أجيال كاملة كانت كفيلة بتغيير وجه الجزيرة العربية والإقليم كافة، وهو ما دفع دول التخوم في إسطنبول وبعض العواصم الغربية للالتفات للدولة الفتية في نجد، والاتفاق على القضاء عليها، لإنهاء مشروعها النهضوي والمستقل عن العمالة للخارج.
السؤال اليوم هو: كيف سيكون شكل الدولة السعودية خلال الأشهر والسنوات القادمة؟ وهل ستكون هناك قطيعة مع مشاريع وبرامج كبّلت المسيرة أو عطّلتها أو أجّلت قدرية نشوئها وحتمية قيادتها لمسيرة التطوير في الإقليم العربي والفضاء الإسلامي؟
بلا شك أن السعودية الجديدة أصبحت النموذج والقائد لمسيرة الشرق كما كان قدرها قبل ثلاثة قرون والذي تأجل بسبب الحروب والمؤامرات التي واجهتها السعودية في كل أطوارها.
ولعل برنامج الرؤية الذي سبق التأسيس بسنوات عدة يمكن تسميته بالحاضن الملهم وخزان الأفكار والمشاريع الخلاقة للنهضة السعودية، وهو ما يعطي الملامح التي لطالما تمناها السعوديون لبلدهم، فقد اكتشف السعوديون فجأة أنهم يملكون كماً هائلاً من الإمكانات والمواهب والقدرات كانت أمامهم وبين أيديهم لكن أحداً لم يلتقطها أو لم يجرؤ على تحريكها، حتى جاء الملك سلمان والأمير الجسور محمد بن سلمان وأطلقاها في عنان السماء كما كتبها الأمير محمد ذات يوم.
نقلا عن “عكاظ“