الفنون لا تعيش في الظلام، سواء ظلام العقول أو ظلام النفوس، وما أقبح أن يصبح الفرح مكتوف الأيدي لا وسيلة له يعبر بها عن نبض المجتمع، ولعل من أجمل ما حدث مؤخراً في موسم الرياض هو الاحتفاء بالفن الشعبي في حفلات خاصة..
إن من أجمل ما يعرف الشعوب ببعضها هو التعرف على فنونها الشعبية عامة والغنائية الراقصة خاصة، فهما لغة لا تحتاج إلى ترجمة، فالغناء وإن لم تفهم كلماته يطرب للحنه، أما الرقص فهو استجابة جسدية لذلك اللحن وهذا كفيل بإدخال السرور والبهجة على من يستمع ويعرف كيف يستمتع.
في صغري كان تلفزيون الكويت الذي يصلنا بثه في المنطقة الشرقية يحتفي بهذه الفنون ويقدم عروضاً غنائية وراقصة لفرق كثيرة منها فرقة رضا المصرية وفرقة الفنون الشعبية العراقية وفرق أخرى منها رقصات فلكلورية للشراكسة الذين كانوا يدهشوننا بخفتهم ورشاقة خطاهم وكأنهم ينتعلون بعجلات صغيره مثبتة في أقدامهم، كبرت وكبر معي إعجابي واهتمامي بالفن الشعبي وعلى رأس القائمة فن السامري مهما تعددت وتنوعت الفنون التي أعرفها، ولم أكن أفهم يوماً أولئك الذين يخجلون من الفن الشعبي ويزدرونه مع أنه لسان ناطق عن التاريخ والثقافة لكل شعب وناقل أمين للمعتقدات والعادات والتقاليد الاجتماعية والعقائد الدينية.
ولم يكن هذا الخجل يقتصر على الشعوب العربية، ففي الغرب أيضاً عانى كل من يهتم بالفن الشعبي بالنظرة الدونية للفن ومن يهتم به ففي بريطانيا أخذ مجموعة من الفنانين على عاتقهم إنشاء مؤسسة تعنى بالفن بكل فروعة، وكانت بداية لفت النظر العالمي إلى أهمية تلك الفنون والمحافظة عليها وتعزيز مكانتها الثقافية والاجتماعية بعد أن حوربت كثيراً بقصد أو دون قصد وكأنهم يريدون التبرؤ منها على اعتبار أنها لا تليق إلا بأصحاب الذوق المتدني، وإذا كانت فروع الفن الشعبي عانت من ذلك مرة فقد عانت الموسيقى والرقص منهما أكثر وأكثر، وبخاصة في منطقة الخليج حتى اقتحم الميدان من اتصفوا بالجسارة ليقفوا في وجه التيار الرافض والمتعالي ويعملوا على إحيائها، فالرقص مثلاً لم يكن مجرد حركات جسدية مستجيبة للحن وإنما كانت في جذورها مرتبطة بالحرب والسلام والعمل والبناء والقوت اليومي وما وصل إلى كونه مجرد وسيلة للتسلية وتعبيراً عن الابتهاج إلا بعد وقت طويل وإن كانت بعض الرقصات تحمل هذا الطابع، فرقصات الحرب وقرع طبولها ما زالت موجودة ورقصات الحصاد وإعداده ما زالت موجوده ومنها الاحتفال بدق الحب (حبوب القمح وغيرها) ولو لم تحظ تلك الفنون بالاهتمام لما عرفنا شيئاً غير (الشكشة) ولولا ذلك ما وصلت إلينا أهازيج المناسبات المختلفة ولا أغاني هدهدة الأطفال ولا حماسيات ودعوات عمال البناء.
وما بين انتكاسة ونهضة وشروق وغروب مرت بها تلك الفنون دفع كثير من الفنانين ثمناً غالياً من استقرارهم النفسي والعائلي حين حكم عليهم المجتمع بأنهم من الفاسقين المفسدين للدين والأخلاق، وبخاصة عندما اجتاحت المجتمع موجة الصحوة فكانوا هم أول ضحاياها. وحتى الكويت التي كانت منارة فنية في الخليج تراجعت فلم يعد معهد الموسيقى يقدم حفلاته الجماعية الجميلة وجلساته الفنية الخاصة بالطلاب والطالبات واختفت فرقة التلفزيون الكويتية بعد أن قدمت أجمل الفنون.
وظلت بهجة الغناء الشعبي والرقص محصورة في بعض الاحتفالات الخاصة لمن ظلوا يقيمون الفن ويرون فيه مساحة للبهجة، أما الأغلبية فكانوا يخافون حتى من إعلان رأيهم إن كانوا مع أو ضد وظل من يقدمونها في إطار اجتماعي لا يليق بإنسانيتهم ولا تلك البهجة التي يوزعونها في الحفلات الخاصة.
ولكن الفنون لا تعيش في الظلام سواء ظلام العقول أو ظلام النفوس، وما أقبح أن يصبح الفرح مكتوف الأيدي لا وسيلة له يعبر بها عن نبض المجتمع، ولعل من أجمل ما حدث مؤخراً في موسم الرياض هو الاحتفاء بالفن الشعبي في حفلات خاصة نافست في حضورها وأجوائها حفلات أكبر الفنانين، ورغم أني لم أحضر أياً منها إلا أني كنت سعيدة بها، سعيدة من أجل الفنانين وسعيدة من أجل الصورة التي تغيرت عما يقدمون.
والملاحظ أن ميولاً شبابية عامة في العالم العربي برزت وهي تحتفي بالفن الشعبي بعد أن تبين لهم أنه جزء لا يتجزأ من ثقافتهم، ففي مصر ظهرت فرقة طبلة الست، وفي سورية فرقة تكات وغيرهم هنا وهناك. الفن لا يموت ولكنه يمرض ونحن من نتسبب في مرضه بل وخنقه وليس مهماً أن نحافظ عليه فقط بل نحميه مما قد يشوه أصالته، نحن في السعودية نملك كنزاً رائعاً من الفنون في كل المناطق ويليق بنا وبه أن نحتفي به ونظهره للعالم أجمع.
نقلاً عن “الرياض“