إن من أهم التجارب فى محاولة إنشاء وخلق تيار ليبرالى إسلامى، تجربة حسن الترابى فى السودان، ورغم ذلك فقد كانت فاشلة إلى حد كبير، بسبب إغراقها فى الجانب السياسى على حساب الجانب الفكرى، وتورطها فى سياسات قريبة من التنظيم الدولى للجماعة.
طرحت هذه التجربة فكرة إعادة صياغة الإسلام وتكييفه بحسب العادات والأعراف والسمات الخاصة بكل مجتمع، بحيث يصبح نسخاً متباينة حسب طبيعة الشعوب، مع الاحتفاظ بالقاسم المشترك الذى يوحّد بين هذه النسخ، وهو ما يُعرف بالثوابت، وقد كانت هذه إشكالية هذا التيار، والتيارات الأخرى أيضاً، فمساحة الثوابت والمتغيرات تختلف من زمن لزمن، ومن مكان لآخر، مما يثير جملة من الإشكالات.
ارتأى هذا التيار تجديد الإسلام بشكل شامل يتجاوز الشكليات، متبنياً فى قضايا المرأة خطاباً أقرب إلى حركات النسوية، حتى وصل إلى التأكيد على المساواة المطلقة بينها وبين الرجل فى الميراث، بل وفى أصل الخلقة، معتبراً أن الحجاب كان خاصاً بزوجات النبى وأسرته.
وقد دعا هذا التيار إلى حرية المرأة فى العمل والملبس، داعياً إلى حرية الفكر والاعتقاد، ورافضاً حد الردة وأى عقوبة على من بدّل دينه، بل وكان من أهم الاستنباطات الفقهية التى توصلوا لها جواز زواج المسلمة من كتابى.
وكان من أهم الثوابت التى دعا لها هذا التيار هو إيجاد مرجعية فكرية جديدة بديلة عن مرجعية المجتمع السائدة، التى يجب أن توضع موضع الشك والدراسة من جديد، وربط المجتمع المسلم بمنظومة عالمية فى الفكر والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون، واستبدال قاعدة الولاء للمجتمع المسلم بالولاء للوطن، وإعادة ترتيبها فى تحالفات أكبر قائمة على المصلحة.
كما كان درة أفكار هذا التيار هى أن العقل يجب أن يحكم، لأن الدين عُرف بالعقل، ولذا لا بد من إحياء الاجتهاد والتأويل، وتحديد الثوابت والمتغيرات بما يتوافق مع المصلحة، معتبراً أن 10 فى المائة فقط هى ثوابت ونصوص قطعية الدلالة، وأن النصوص الباقية اجتهادات غير إلزامية نشترك فيها مع الأديان الأخرى، على اعتبار أن الإسلام دين مقاصد فقط، والغرض من النصوص هو مقاصدها.
الأهم أن أصحاب هذا التيار يعتقدون أن هناك خلافاً بين علماء الأصول حول صعوبة حدوث الإجماع، ومن ثم يرفضون أحكاماً كثيرة بسبب هذا الرفض، ويقولون إن الإجماع بصدد الأحكام الدستورية فى أحد العصور السابقة غير ملزم لعصر لاحق.
اعتبرت جماعة الإخوان أن زعيمها السابق الترابى متحرر، وأن الخلاف معه فى أصول العقيدة، وأنه بهذه الأفكار يهجم على الفكر الإسلامى ويصمه بالإغراق فى التجريدية، ويحاول أن يُخرج الإسلام من تاريخه.
لكن خلاصة الأمر كله أن زعيم هذا التيار، وهو حسن الترابى السياسى، كان مختلفاً عن الترابى المفكّر، وقد جعلت السياسة منه رجلاً مشوهاً وقضت على أفكاره التجديدية، ففى الفترة التى كان يقود فيها البرلمان، احتضن كل الجماعات الدينية فى العالم، ومنها تنظيم القاعدة، والجهاد المصرى، واستخدمها فى حرب الجنوب، وكان متورطاً بالفعل فى محاولة اغتيال الرئيس المصرى الأسبق.
وكان أخطر ما فعله هو دعوته لتطبيق «النظام الخالف»، أى توحيد التيارات الإسلامية بمختلف مسمياتها، فضلاً عن التيارات الصوفية والسلفية والقومية فى كيان واحد، وهذا كله أسهم فى إغراق السودان فى مشكلات متعددة.
* نقلا عن ” الوطن”