إنها الصراعات المُسلحة التي أظهرت وتُظهر الوجه الحقيقي للحضارة الغربية التي أثبتت انحيازها التام للجوانب المادية على حساب القيم والمبادئ والحقوق والأخلاقيات الإنسانية الأصيلة التي تدعو لها الحضارات الأصيلة في قيمها ومبادئها، والبناءة في أهدافها وغاياتها الإنسانية السَّامية..
رفعت الأمم المُنتصرة بالحرب العالمية الثانية (1945م) شعارات سياسية وحقوقية أهدافها المعلنة تأصيل مفاهيم الأمن والسلم والاستقرار العالمي في عقول وقلوب أبناء المجتمع الدولي، وغايتها الظاهرة ترسيخ قيم ومبادئ التعايش الإنساني بين مختلف الشعوب والأمم أياً كانت معتقداتها الدينية، وتوجهاتها السياسية، وطروحاتها الفكرية. وفي سبيل تأصيل وترسيخ هذه القيم والمبادئ الإنسانية العالمية، عملت تلك المجتمعات الغربية –المُنتصرة بالحرب العالمية الثانية– على إصدار القوانين العالمية، وإقرار المعاهدات الدولية، وإنشاء المؤسسات الرقابية الحكومية والمدنية، وسخَّرت مؤسساتها البحثية والفكرية والإعلامية، للتأكيد على تلك المفاهيم الإنسانية والحقوقية، ولضمان تقيُد أطراف المجتمع الدولي بتلك القيم والمبادئ الإنسانية المقرة عالمياً. ومع مضي الأعوام والعقود المتتالية ظهر أن بين تلك الشعارات السياسية والحقوقية المعلنة، وتطبيقها على أرض الواقع، مساحة شاسعة من التباينات والتناقضات المُغلفة بالمُصطلحات السياسية متنوعة المعاني، ومتعددة الطروحات الفكرية والتفسيرات، الهادفة بمجملها لتسويق تلك المُجتمعات المُنتصرة بين الأمم على أنها مجتمعات تؤمن بالإنسانية، وتعلي من شأن المساواة بين الأمم في الحقوق، ولتضع قيمها ومبادئها في مكانة رفيعة وعالية تفوق بها الشعوب والأمم الأخرى، ولتكون بذلك رمزاً فريداً ومتميزاً للأمة “المتحضرة” و”الشعوب المستنيرة” عن باقي الأمم والشعوب.
وبما أنها مجتمعات منتصرة في الحرب العالمية الثانية، وتصدرت ميادين الصناعة والاقتصاد والتقنية والتكنولوجيا، وامتلكت مصادر التأثير والقوة الإعلامية والتسويقية، فقد تمكنت –منذ 1945م وعلى مدى سبعة عقود– من إلباس نفسها لبوس الإنسانية وحقوق الإنسان على أكمل وجه حتى أنها ظهرت وكأنها لم تبدأ أو تدخل حروباً، ولم تقتل وتشرد شعوباً، ولم تسقط وتدمر حكومات، ولم تزعزع وتخرب أمن واستقرار مجتمعات مطمئنة ومسالمة. نعم، لقد نجحت تلك المجتمعات الغربية المُنتصرة على إظهار نفسها بالمجتمعات “المُتحضرة” إنسانياً وحقوقياً وأخلاقياً، والسَّاعية لنشر أسمى قيم ومبادئ الحرية والإنسانية والحقوق على المستويات العالمية، في الوقت الذي تجاوزت فيه تلك المجتمعات الغربية المُنتصرة جميع القوانين والمعاهدات الدولية، ومعظم القيم والمبادئ الإنسانية والحقوقية والاخلاقية التي تنادي بتطبيقها عالمياً. لقد كانت تلك التجاوزات القانونية والحقوقية والإنسانية والأخلاقية معلومة لكثير من أطراف المجتمع الدولي، إلا أن تلك التجاوزات كانت تُغلف بِغلاف الصراع بين الأمم المتحضرة والأمم غير المتحضرة، والصراع بين دعاة الحرية والليبرالية والديموقراطية مع دعاة التسلط والديكتاتورية والاستبداد، والصراع بين الأمم الصناعية والمتقدمة مع الأمم البدائية والمتخلفة. واستمرت تلك الشعارات التسويقية المُضللة –التي تعلي من شأن المجتمعات المُنتصرة انسانياً وحقوقياً وأخلاقياً على حساب الأمم الأخرى التي اتهمت بالتخلف والتأخر– حتى أظهرت الأزمة المُسلحة في القارة الأوروبية –فبراير 2022م– زيف الشعارات السياسية والحقوقية التي ترفعها تلك المجتمعات الغربية المُنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
نعم، لقد أظهرت الصراعات عموماً، والصراع المُسلح القائم في القارة الأوروبية –بين أطراف المجتمعات الغربية المُنتصرة في الحرب العالمية الثانية– حجم التناقضات والمتضادات والتباينات بين الشعارات السياسية والإنسانية والحقوقية والأخلاقية، وبين الواقع السياسي القائم الذي تعيشه وتمارسه وتعمل به تلك المجتمعات الغربية المُتحضرة بحسب شعاراتها. ففي حال اللاجئين، فإن المجتمعات الغربية “المُتحضرة” لديها معاييرها الخاصة والمتعددة عند تعاملها مع مسألة اللاجئين. فإن كان هؤلاء اللاجئون غربيون في عرقهم، ومعتقدهم، ولونهم، فإن فتح الحدود أمامهم، وتوفير سُبل العيش الكريم لهم، وحمايتهم، وإيوائهم، ومساعدتهم، ونُصرتهم، واجبة إنسانياً وقانونياً وأخلاقياً؛ أما إن كان هؤلاء اللاجئون من أمم وحضارات وأعراق غير غربية، فسوف تُغلق الحدود أمامهم، وتُسد الطرق لبقائهم في أماكن الصراع، وتوقف عنهم المساعدات الإنسانية بدعوى صعوبة الوصول إليهم، وتزداد معاناتهم الصحية والغذائية حتى يفقدوا الأمل وييأسوا من الحياة، كما يسمح بانتهاك كرامتهم الإنسانية والأخلاقية. وفي حال استمرار العدوان المُسلح، فإن كان العدوان على مجتمع غربي في موقعه الجغرافي، وعرقه البشري، ومعتقداته السياسية والفكرية، فسوف تسعى هذه المجتمعات الغربية “المُتحضرة” جاهدة لوقف ذلك العدوان المسلح بالطرق السياسية والقانونية وقد تصل للعسكرية، وتُسخَّر لذلك قدراتها الاقتصادية، والصناعية، والتقنية، والتكنولوجية، والإعلامية، وتوظف من أجل ذلك ما تملك من إمكانات وموارد؛ وأما إن كان العدوان المُسلح على بلد غير غربي، فستعمل تلك المجتمعات الغربية على تأييد أو دعم ذلك العدوان المُسلح، وتُبرر للمُعتدين اعتدائهم، وتصمت عن تدمير قدرات وإمكانات ذلك المجتمع المُعتدى عليه، وسوف توقِع على المعتدى عليهم العقوبات القانونية والأخلاقية، وسيُتهم أبناء تلك المجتمعات المعتدى عليها بالإرهاب والتطرف والتخلف. وفي حال المكانة الحضارية، فإن كان الصراع داخل المجتمعات الغربية، فإن التهمة ستوجه للأشخاص وليس للحضارة الغربية، وأسباب الصراع سيتم تحميلها للاختلاف في المصالح والمنافع وليس للحضارة الغربية، والمُبتدئ بالصراع لن يُتهم بالإرهاب والتطرف، والمُدافعون عن مجتمعهم سيكونون وطنيون شرفاء ودعاة للحرية؛ أما إن كان الصراع في المجتمعات الأخرى غير الغربية، فإن تلك الحضارة ستُتهم بالتخلف والرجعية، وأسباب الصِراع سيتم تحميلها لقيم ومبادئ وأفكار تلك الحضارة، والمُبتدئ بالصراع سيُتهم بالإرهاب والتطرف، والمُدافعون عن مجتمعهم سيُتهمون بالتطرف والإرهاب والعنصرية.
نعم، لقد أظهر وفضح الصراع القائم في القارة الأوروبية –فبراير 2022م– مدى هشاشة الحضارة الغربية “المتحضرة” التي سُوِّق لها على مدى سبعة عقود، وكشف سطحية القيم والمبادئ الإنسانية والحقوقية والأخلاقية التي تم الترويج لها على حساب الحضارات الأخرى، وبيَّنَ بِجَلاءٍ عُمق العُنصرية البغيضة التي تعيش داخل أروقتها وبين أفرادها تجاه أبناء المجتمعات والحضارات الأخرى، وأَشَّرَ لِعدم الإيمان بالقيم والحقوق الإنسانية العليا التي تحفظ كرامة وحقوق الإنسان أياً كانت حضارته، وعرقه، ولونه، ومعتقداته. إنها الصراعات المُسلحة التي أظهرت وتُظهر الوجه الحقيقي للحضارة الغربية التي أثبتت انحيازها التام للجوانب المادية على حساب القيم والمبادئ والحقوق والأخلاقيات الإنسانية الأصيلة التي تدعو لها الحضارات الأصيلة في قيمها ومبادئها، والبناءة في أهدافها وغاياتها الإنسانية السَّامية.
وفي الختام من الأهمية القول إن الصورة الجميلة التي رُسِمت بها، وسُوِّقت من خلالها، الحضارة الغربية في عقول وقلوب العامة سقطت عند أول اختبار حقيقي لمبادئ الحرية والعدالة والمساواة والحقوق المُشتركة بين الشعوب واتباع الحضارات والثقافات المختلفة، حيث تبين أن تلك الحضارة الغربية التي يُسوق لها تُخفي في عُمقها عنصرية مقيتة، وتمييزاً بين الشعوب والثقافات والأعراق، وانحرافات فكرية وإيديولوجية عظيمة. إن الصراعات المُسلحة التي تسببت بها المُجتمعات الغربية “المُتحضرة” التي استنزفت أرواح الملايين من البشر، ودمرت المجتمعات المُسالمة والمستقرة، جعلت من مصطلح “التحضُر” مُرادفاً لكلمة التدمير، ومن مصطلح “الديموقراطية” مُرادفاً لكلمة التمييز على أساس العرق والمعتقد، ومن مصطلح “حقوق الإنسان” مُرادفاً لمفهوم الابتزاز السياسي.
نقلا عن الرياض