لا أحد يستغرب ما عبَّر عنه شاعر المعلَّقات زهير بن أبي سلمى عندما قال: سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ. لا سيما أنه كتب هذا البيت الشعري الشهير في زمن الجاهلية، حيث كان الناس يصارعون من أجل البقاء وتأمين أساسيات الحياة، وحيث كان الموت العشوائي يتربص بهم ولا يفرق بين شيخ وشاب، وفي وقت كانت تتهدَّدهم الحروب والغزوات والسبي والأسر وهوام الصحراء ودوابها، ناهيك عن الأوبئة والأمراض والمجاعات التي كانت تفتك بهم من دون رحمة.
الاستغراب الفعلي هو شكوى الناس من متاعب و”تكاليف” الحياة في زماننا الحاضر الذي تتوفر فيه شتى أساليب الراحة من السيارات الآمنة والمساكن المريحة التي يمكن التحكم في درجة حرارتها حسب رغبتنا إلى الإفراط في التغذية إلى الهواتف الذكية إلى تطبيقات التوصيل من السوبرماركت إلى عدد لا متناهٍ من وسائل الراحة المتوفرة لدينا اليوم، حتى إنه يمكننا القول إننا بتنا نعيش في عصر الراحة.
ففي العصر الحديث أصبح لكلٍّ منا ما يُعرف بمنطقة الراحة الخاصة به التي هي بمثابة شرنقته المخملية الخاصة التي ينعم فيها بالطمأنينة والأمان والرضا. ومع ذلك ازداد بين الناس الشعور بالقلق والتوتر والاكتئاب، إذ حسب الإحصاءات التي قدَّمتها النشرة العلمية عبر الإنترنت التي تركِّز على المشكلات العالمية مثل الفقر والمرض والجوع وتغيُّر المناخ والاكتئاب، المعروفة بـ “عالمنا في بيانات” Our World in Data يعاني حالياً حوالي %3.4 من سكان العالم من الاكتئاب بينما يشكو %3.8 منهم من اضطراب القلق.
وتأكيداً على ذلك لاحظ مؤسس علم النفس التحليلي في القرن العشرين كارل يونغ، أن حوالي ثُلث الحالات التي عاينها في حياته، على الرغم من أنها لم تكن تعاني من أي اضطراب عصبي يمكن تحديده من الناحية السريرية الأكلينيكية، ولكنها كانت تشكو من عبثية وعدم وجود هدف ومعنى لحياتها، وأشار إلى أنه يمكن تعريف هذا الشعور بالاضطراب العصبي العام في عصرنا الحديث.
ولكن السؤال الذي يبرز هنا هو: لماذا؟ لماذا نشعر بهذه الطريقة في عصر تسوده أعلى مستويات المعيشة في التاريخ ويتميز بسهولة الوصول إلى تلبية احتياجاتنا المادية؟ لماذا نشعر بالاكتئاب في عالم مليء بالاحتمالات التي لا نهاية لها؟ لماذا نشكو من الوحدة في الوقت الذي لم نكن أكثر قدرة على التواصل مع الآخرين في أي زمن آخر؟ لماذا نحن مسكونون بالغضب والقلق والتوتر والشعور بالمرارة والفراغ مع وجود كل هذه الإمكانات من حولنا؟
قد تكون الأجوبة على كل هذه الأسئلة مرتبطة في الجوهر بما يمكن تسميته بـ”أزمة الراحة” التي يمكن تعريفها بالمشكلات التي تنتجها كل وسائل الراحة التي نحن محاطون بها اليوم، الراحة نفسها التي نحرص على الحصول عليها في كل سلعة أو منتج أو خدمة نسعى لشرائها. وذلك ربما لأن الراحة تسهِّل أعمالنا وتترك لنا مزيداً من الوقت للعيش مع أنفسنا داخل أفكارنا، وربما لأن الراحة تزيل المصاعب والمخاطر من حياتنا اليومية بحيث لا تفتح لنا المجال لإثبات قدراتنا أو التعاون معاً للتغلب على المشكلات من حولنا، وربما لأن كل وسائل الراحة المتوفرة لدينا قد أقتنعنا بالكذبة الكبيرة أن المكانة الاجتماعية هي الأهم وأن المنازل الكبيرة والسيارات باهظة الثمن والملابس الفاخرة والرحلات البعيدة هي السبيل إلى السعادة، وربما لأن كل الوسائل التكنولوجية المتوفرة لدينا التي نربطها بالراحة وتسهيل الأعمال قد أفقدتنا الاتصال بالطبيعة ونصبت أمامنا جداراً يفصلنا عن الأبعاد الأعمق لتجربتنا الإنسانية. كل ذلك يبدو صحيحاً من المنظور الإجمالي العام ولكن بشكل أدق يمكن تقسيم الأسباب التي تؤدي بنا إلى مشاعر القلق والاكتئاب على الرغم من كل وسائل الراحة والأمان التي ننعم بها إلى قسمين اثنين، واحد يعود إلى أسباب جسدية فسيولوجية، وآخر إلى أسباب نفسية سيكولوجية.
في عصر الراحة الحالي تقدِّم لنا الحياة الحديثة مجموعة من السلوكيات التي تعتمد على الجلوس أغلب الوقت، إن لم يكن كله، بحيث يمكن إدارة حياتنا بالكامل من خلال تطبيقات وخدمات ونحن جالسون على مقعدنا، ناهيك عن مروحة من وسائل الترفيه التي تتوافق مع وضعية الجلوس لدينا إن كان مشاهدة التلفزيون أو ممارسة ألعاب الفيديو أو كل ما يمكن أن نقوم به ونحن نحدق في الشاشات على مختلف أنواعها. وكل ذلك أدى بنا إلى أن نطوِّر علاقة حُب غير مسبوقة مع ما اعتبره البعض أبرز تقنية تميز عصرنا الحديث، ألا وهي الكرسي.
يقول الدكتور فيبار كريجان ريد في كتابه “التغيّر البدائي” أنه عندما سينظر مؤرخو المستقبل إلى حقبتنا الحالية التي يُطلق عليها اسم “الأنثروبوسين”، وهي الحقبة التي يعود تاريخها إلى بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية، سيرون أن أبرز تقنية في هذا العصر هي الكرسي وليس أجهزة الكمبيوتر.
ويعود السبب في ذلك إلى أن الكراسي التي كانت نادرة الوجود في الأزمان السابقة بحيث أكثر ما كانت ترتبط بالملوك والسلاطين وكراسيهم المرصَّعة بالذهب والأحجار الكريمة والحرير والمميزة بأحجامها الكبيرة، بدأ وجودها يتزايد أكثر وأكثر مع الثورة الصناعية وبروز فئة جديدة من أصحاب المهن التي يُطلق عليها اسم “كتبة المكاتب”، ومن ثم تزايدت بشكل تدريجي بسبب تداخل عوامل عديدة كالموضة والسياسة ومواعيد العمل والتوق للراحة، إلى أن أصبحت اليوم في كل مكان في المطاعم أو المقاهي أو المكاتب أو القطارات أو السيارات أو دور السينما أو قاعات الحفلات أو قاعات المحاضرات أو المدارس أو الجامعات أو عيادات الأطباء أو في منازلنا. وهناك من يقدِّر عدد الكراسي الموجودة في العالم بحوالي 60 مليار كرسي أي بمعدل 8 إلى 10 كراسي لكل شخص، وذلك في مقابل عدد أجهزة الكمبيوتر في العالم التي تم تقديرها في 2021م بحوالي 6.2 مليار جهاز سواء أكانت كمبيوترات شخصية (كمبيوتر مكتبي أو محمول)، أو أجهزة لوحية، أو هواتف جوالة وذلك حسب تقرير صادر عن شركة جارتنر للأبحاث.
ومع وجود هذا العدد الهائل من الكراسي أصبحنا نقضي، حسب بحث أجرته “مؤسسة القلب البريطانية” المعنية بصحة القلب في بريطانيا، ما يصل إلى تسع ساعاتٍ ونصف الساعة يومياً ونحن جالسون، وهذا يعني أن إنسان العصر الحديث يقضي %75 من وقته دون نشاطٍ حركيٍ وهو ما يترتب عليه عدد من المشكلات الجدية. فهناك من وصف الجلوس “بالتدخين الجديد” لأننا إذا ما جلسنا لفترات طويلة ستكون النتيجة الإضرار بصحتنا بطريقة تشبه بنتائجها المشكلات الناتجة عن التدخين واستنشاق الهواء الملوث.
كما يظهر عدد من الدراسات التي تتناول مشكلة “الخمول” أن الجلوس الزائد يمكن أن يكون مميتاً، إذ في وضعية الجلوس ينخفض النشاط الكهربائي في الجسم جنباً إلى جنب مع مستويات الكوليسترول الجيدة ونسبة حرق السعرات الحرارية كما تنخفض فعالية الأنسولين ويزداد خطر الإصابة بمرض السكري. فصحة أنسجتنا الصلبة والرخوة أو اللينة يمكن أن تبلغ – بفعل التأثير السلبي لانعدام الأنشطة الحركية – درجةً من السوء، يصلح معها الاستشهاد بالقاعدة الطبية التي تقول “العضو الذي لا يعمل يضمر ويموت”.
فبينما كان البشر في العصر الحجري القديم يقضون نحبهم في معظم الأحيان خلال فترة الطفولة، أو ربما نتيجة العنف والإصابة بجروحٍ اللذين كانا سببيْن شائعيْن لمفارقتهم الحياة في مراحل لاحقةٍ من العمر، يختلف الوضع مع أحفادهم المعاصرين في عصر الأنثروبوسين الذين باتوا يموتون من أمراض مرتبطة بانعدام النشاط الحركي أو بالأحرى من جرَّاء علاقتهم المستحدثة مع الكراسي التي فاقمت “أزمة الراحة” بشكل كبير.
هذا من الناحية الفسيولوجية، أما من الناحية النفسية السيكولوجية، ففي كتابها “خطر في منطقة الراحة”، وبعدما عرَّفت جوديث إم باردويك منطقة الراحة بأنها: “حالة سلوكية يعمل فيها الشخص في حالة من القلق المحايد، وذلك باستخدام مجموعة محدودة من السلوكيات لتقديم مستوى ثابت من الأداء المُتوقع، وهو ما يجري عادة دون الشعور بالمخاطرة أو الارتباك”، أطلقت تحذيرات جدية من مخاطر وجودنا الدائم في هذه المنطقة.
تقول باردويك إن منطقة الراحة هي منطقة وهمية تدفعنا إلى أن نشعر بالسعادة وبراحة كبيرة وطمأنينة ورضا عن الأشخاص الذين نتعامل معهم والمكان الذي نتواجد فيه وتوفر حالة من الأمان النفسي، حيث السعادة المنتظمة ومستوى القلق المنخفض. ولأنها كذلك فهي تسهل علينا الدخول في روتين معيَّن يصعب علينا الخروج منه لا سيما أنه لدينا جميعاً ميل غريزي للشعور بالأمان وتفضيلاً للمتعة في متناول اليد على حساب تأخير الإشباع. كما أن الشعور بالأمان في منطقة الراحة يؤدي بنا في كثير من الأحيان إلى الوقوع في ما يعرف بـ “فخ العمل” حيث نتظاهر بأننا “مشغولون” بشكل دائم كوسيلة للبقاء في فقاعتنا المريحة ولنتجنب القيام بأشياء جديدة. ولكن كل ذلك يأتي على حساب مستويات الإنتاجية لدينا لأنه بدون الشعور بـ “عدم الارتياح” الذي يأتي من جرَّاء تحديد المواعيد النهائية والتوقعات والقليل من التحدي، نميل إلى أن نبذل الحد الأدنى المطلوب منا، فنفقد الدافع والطموح والسعي إلى اكتساب مهارات جديدة.
يقول دانيال بينك، مؤلف كتاب “القيادة: الحقيقة المدهشة حول ما يحفزنا” الصادر في 2009م، بأننا بحاجة إلى حالة من القلق النسبي أو مساحة تكون فيها مستويات التوتر لدينا أعلى قليلاً من المعتاد بحيث تقع خارج منطقة الراحة لدينا. تكمن الفكرة الأساسية في ذلك بأن أنظمتنا العصبية تتطلب درجة معتدلة من التحفيز – درجة تشبه الحرارة المثالية على كواكب غولديلوكس، حيث الحرارة تكون لا منخفضة ولا مرتفعة وإنما بين بين – لأنه إذا كانت درجة التحفيز منخفضة نبقى في منطقة الراحة، حيث يتسلل إلينا الخمول والكسل، وفي حال كانت مرتفعة ندخل في منطقة “الذعر” التي تعيق التقدم أيضاً.
ولكن ما هو مطمئن هو أننا قد صممنا لنكون أكثر من مجرد متفرجين على حياتنا بحيث لدينا دافع فطري لنغامر بما يتجاوز ما هو مألوف، لدرجة أن هرمون الدوبامين المعروف بهرمون السعادة يتم تحفيزه في الجسم من خلال مجرد توقع شيء جديد. إنها طريقة التطور لحثنا على سلوك البحث عن الجدة. كما أننا مجهزون أيضاً بحافز داخلي آخر للخروج من حالة الراحة الافتراضية هذه المتمثل برفضنا “للتعود”، فنحن كبشر نسأم من التكرار والعيش بنفس الروتين اليومي، فنسعى إلى تغيير كيفية قيامنا بما نقوم به لمنع الملل. وبذلك تضمن لنا الطبيعة البشرية ما نتسلح به لتجنب الوقوع في أزمة الراحة، وهما التجديد والتحدي اللذان هما العاملان الرئيسان للرضا عن الحياة على المدى الطويل، وذلك حسب عالِم الأعصاب غريغوري بيرنز في كتابه “الرضا عن الحياة”.
يبقى أن نقول إنه ليس بالأمر الهين مقاومة ثقافة الراحة والسهولة السائدة اليوم، لا سيما أن المسوِّقين قد جعلوا سعينا إلى الراحة في كل شيء أمراً تلقائياً مما يسهِّل الحصول عليها ويعزِّز مكانتها ويجعلها مرادفة للحياة الجيدة، ولكن ما هو ممكن هو إيجاد نوع من التوازن بين تحقيق الراحة والإبقاء على الطموح والسعي للتجدد ومواجهة التحديات كي لا نقع في أزمة الراحة التي تحول بيننا وبين عيش تجربتنا الإنسانية الحقة.