يشهد سوق الطائرات المسيرة في العالم توسعاً وانتشاراً متزايداً، حيث تشير الإحصاءات أن تجارة المسيرات تتجاوز قيمتها اليوم 30 مليار دولار، وأن في أميركا وحدها هناك أكثر من 7 ملايين مسيّرة. وللأسف فإن التكنولوجيا التي أبدعتها عقول عبقرية، مثل الأميركي من أصول صربية نيكولا تسلا، الذي عرض لأول مرة في عام 1898 في معرض مختص بالابتكارات في مدينة نيويورك، كيفية تشغيل طراد عن بُعد باستخدام تيار كهربائي متناوب، وما أعقبه من أبحاث استمرت لأجيال من أجل خير ومصلحة البشر، باتت اليوم في متناول الدول المارقة والمنظمات الإرهابية.
بعد اختراع تسلا، أسهم عديد من المكاسب التكنولوجية التراكمية، وتحديداً في مجال الطيران، في تطوير تكنولوجيا الطائرات من دون طيار. وبعد إهمال الفكرة لسنوات طويلة، عادت لتظهر في حرب فيتنام حين استخدمت أميركا نماذج أولية للمسيّرات في مهمات الاستطلاع الجوي، كما استخدمتها إسرائيل في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. وتطورت التكنولوجيا في حرب الخليج الأولى 1991، حينما انتشرت المسيرات للمراقبة والرصد وتحديد الأهداف. ولم تقم أميركا بتسليح تلك الطائرات من دون طيار إلا في عام 2000، حين أضافت صواريخ “هيلفاير” المضادة للدروع الى المسيرات من طراز “بريديتور”، وتلاها الجيل الثاني من مسيرات “ريبر” القناصة.
وخلال السنوات الماضية، تسارعت أعداد الدول التي طورت برامج تصنيع المسيرات إلى أن وصلت إلى مئة ودولتين و63 منظمة غير حكومية، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، ومع الأسف فإن تكنولوجيا المسيرات لم تشهد تطوير عمليات موازية لضمان حوكمتها، مثل قوانين حماية الخصوصية، والضوابط التجارية، والأضرار الجانبية، والولاية القضائية، لضمان الاستخدامات السلمية وغير التخريبية لهذه التكنولوجيا، بل فكرت الشركات المصنِّعة بالعوائد الهائلة التي يمكن أن تجنيها من هذه الصناعة الرائجة.
شبكات الإرهاب الإيراني
لقد طوع الإرهاب الإيراني وأذرعه في اليمن ولبنان والعراق والإرهاب الداعشي، إبداعات البشرية لصالح المشاريع التخريبية وحولها إلى أدوات للموت والدمار. فالطائرات المسيرة التي تُستخدَم في عالم اليوم في الزراعة، وتجارة التوزيع، ورصد حرائق الغابات، والكوارث الطبيعية وعمليات الإنقاذ، ومراقبة التغير المناخي والتنبؤ بالطقس ومراقبة الحدود، التي شهدت أبرز جولات الحرب الأميركية ضد إرهاب “القاعدة” و”داعش”، استحالت اليوم بيد الإرهابيين إلى أدوات للموت واستهداف الأعيان المدنية والمنشآت الحيوية في منطقتنا.
وانتهز النظام الإيراني انطلاقاً من نظريته التوسعية التخريبية لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، انتشار مكونات هذه التكنولوجيا في السوق المفتوحة، وتبنى فكرة تأهيل أذرعه الإرهابية في لبنان والعراق واليمن في حربها غير التقليدية ضد دول المنطقة، وهي تواصل في غياب آليات الحوكمة الدولية التزود بها وتهريب مكوناتها عبر شبكة معقدة من الشركات والوكالات التي انشأها “الحرس الثوري” و”حزب الله” في العالم، التي تمتد من الصين شرقاً إلى اليونان غرباً وتركيا واليونان وألمانيا والسويد، وصولاً إلى سواحل أفريقيا الشرقية ودول خليجية وشواطئ اليمن الشرقية والغربية.
وخلال السنوات الست الأخيرة، نشر فريق الخبراء التابع للجنة مجلس الأمن الخاصة باليمن، تفاصيل دقيقة حول كيفية عمل “شبكة الشر الإيرانية” للتخفي وشراء المكونات الخاصة بالتكنولوجيا التي تحتاجها لتطوير الصواريخ والمسيرات والزوارق المفخخة، وهناك 10 شركات إيرانية رسمية تتبع “الحرس الثوري” مثل باقري وبهنام، تقوم بتمويل هذه المشتريات عبر شركات وسيطة يتجاوز عددها الـ 25 شركة ووكالة تجارية موزعة على دول المنطقة.
وتعمل هذه الشبكة الشيطانية المعقدة من الشركات والوكالات في مجالات شتى مثل تهريب النفط الإيراني والسلع الإيرانية الأخرى والمخدرات وتبييض الأموال وتمويل عمليات الحوثيين في اليمن ولديها شركاء في الصومال وجيبوتي واليمن، والهند، وسوريا، والعراق، بما في ذلك، تشير التقارير إلى تعاون بين شبكات المخدرات التابعة لإيران و”حزب الله” مع أساطين المخدرات في كولومبيا. وقد سبق لفريق الأمم المتحدة أن أشار إلى تتبعه خيوط تزويد إيران الحوثيين بهبات شهرية من النفط الإيراني تصل قيمتها إلى 30 مليون دولار، يتم تصديرها عبر ميناء الحديدة رسمياً.
ولدى مجلس الأمن قوائم مفصلة بأسماء الشركات وقيادات “الحرس الثوري” و”فيلق القدس” و”حزب الله”، التي تشرف على عمليات إيصال التجهيزات الضرورية للميليشيات الحوثية بما في ذلك الإرهابيين الإيرانيين واللبنانيين المتواجدين داخل اليمن لجمع وتركيب وتجهيز وإطلاق الصواريخ والمسيرات ضد مناطق اليمن المختلفة وضد الأعيان المدنية في السعودية والإمارات، ومع هذا فهو لا يرغب في البناء على هذه الحقائق في كشف الطبيعة الإجرامية الإرهابية للنظام الإيراني.
اليمن ساحة تجارب
جاءت التصريحات التي أطلقها حسن نصر الله، زعيم مليشيا “حزب الله” الإيرانية في لبنان، التي قال فيها “أصبحت لدينا قدرة على تحويل صواريخنا الموجودة عندنا بالآلاف إلى صواريخ دقيقة”، مضيفاً، “منذ فترة طويلة بدأنا بتصنيع المسيرات في لبنان واللي بدو يشتري يتقدم بطلب”.
ولم يلتفت المراقبون إلى أنه لو لم تكن اليمن حقل تجارب يستخدمها “فيلق القدس” و”حزب الله” في عمليات التطوير عبر إزهاق دماء أبناء الشعب اليمني وتهديد الاستقرار الإقليمي واستهداف الأعيان المدنية في الدول المجاورة لما كان بمقدور زعيم “حزب الله” التشدق بقول ما قاله، لأنه يعرف أن إسرائيل تضعه تحت مجهر المراقبة اللصيقة، بما لا يمكّن ساكن الضاحية الجنوبية من مغادرة جحره، ناهيك عن إجراء تجارب في لبنان، حيث يخضع كل شبر للمراقبة والرصد.
إن إلقاء نظرة سريعة إلى حجم التطوير في تكنولوجيا المسيرات خلال السنوات الست الماضية، تعطينا فكرة عن خطورة استمرار حقل التجارب اليمني لصالح الإرهاب الدولي في المنطقة، وتصريحات زعيم الميليشيات اللبنانية عن استعداده للبيع لمَن يريد، تؤشر إلى ذلك. فخلال الفترة الممتدة من نهاية عام 2016 وحتى نهاية عام 2021، أطلقت ميليشيا الحوثي 851 طائرة مسيرة في هجمات ضد الأعيان المدنية داخل السعودية، و177 ضد المناطق المحررة، كما أن مدى الطيران المسير تطور في مختلف الأنواع التي زودتها بها إيران، من 16 إلى 2500 كيلومتر، أو ما يُعرَف بصواريخ “كروز” الرخيصة التي لا يكلف إنتاجها سوى بضع مئات من الدولارات.
ويعلَم حسن نصر الله أن بضاعته التي يروج لها تم تطويرها من قبل ضباطه في اليمن، وأنه لا يستطيع تهديد دولة الكيان الإسرائيلي لعلمه المسبق أن لعبه بطيران الورق فوق إسرائيل، ستكون نهايته وخيمة عليه وعلى ميليشياته والشعب اللبناني المغلوب على أمره.
ففي الوقت الذي أطلقت ميليشيا “حزب الله” فيه، الطائرات المسيرة من داخل الأراضي اللبنانية، كان الجيش اللبناني يقف متفرجاً، وهو الذي أصدر تعليمات قوية منذ سنتين لتحذير كل اللبنانيين من مغبة استخدام الطائرات المسيرة من دون الالتزام بالنظم والتصاريح المطلوبة، وأنه “سيتم إسقاطها وملاحقة ملاكها قضائياً”. وها هو حسن نصر الله يعلن أنه أطلق طائراته المسيرة وأنه يصنعها وهو على استعداد لبيعها لمَن يريد. فهل سيحرك هذا حميّة الجيش اللبناني؟
التصريحات الأليمة التي أطلقها الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان تصور حقيقة الوضع الذي آلت إليه الأمور في لبنان، عاصمة الثقافة العربية والفن الرفيع، سويسرا الشرق، بعد اختطافه من قبل “حزب الله” الإيراني، إذ قال “في ظل تعثر صناعة الأمل ولقمة العيش والطاقة الأصلية والبديلة، تزدهر في الوطن المأزوم صناعة المسيرات والصواريخ الدقيقة والكبتاغون والنفايات الأزلية والضرائب وطباعة الليرة الممنوعة عن الناس والضرائب وقوانين المسخ الانتخابية.. وكل ما يسرّع الارتطام بقعر ما بعد القعر”.
وتشير معظم آراء الخبراء إلى تطورات فلكية لتكنولوجيا المسيرات من حيث حجمها والتحكم بها وسرعتها ومداها وقدرتها التدميرية وحمل أوزان كبيرة من المتفجرات والمواد المحظورة دولياً. وهناك مؤشرات عملية إلى بداية الدخول في مرحلة الأسراب التي ستشكل الخطر المقبل، والتي ستليها عمليات تشبيك خطيرة من حيث توزيع الأدوار وتنسيق الاستهداف في ما بينها من دون تدخل بشري.
وفي غياب موقف موحد من المجتمع الدولي حول خطورة استخدام المسيرات وانتهاكها للقانون الدولي ولسيادة الدول، بخاصة مع استخدام دول مارقة مثل إيران لأدوات الحرب عن بُعد واستخدامها لممارسة الابتزاز السياسي ضد دول المنطقة وإصرارها على الإنكار الرسمي عن مسؤوليتها لانتهاك القانون الدولي. إلا أن القيادات العسكرية في “الحرس الثوري” و”فيلق القدس” صرحت في مناسبات عدة وبوضوح أنها تزود الحوثيين بالمسيرات وتحديثاتها وتطويرها في مسرح العمليات في اليمن، مقرة بإرسال ضباط للإشراف على تركيب المسيرات وإطلاقها، وأن الحوثي يشكل امتداداً لإيران في المنطقة.
ومع إصرار النظام الإيراني على عدم احترام سيادة الدول في الإقليم، وعدم تجاوبها مع طلبات الإفادة من مجلس الأمن الذي أكد في أكثر من مناسبة عدم امتثالها لقواعد حظر توريد الأسلحة إلى اليمن الواردة في الفقرة 14 من قرار مجلس الأمن 2216، حيث أكد فريق مجلس الأمن أن إيران تورد الطائرات العسكرية المسيرة من نوع “أبابيل تي T” و”قاصف 1″ إلى الحوثيين. وبتوفر الأدلة الكافية على تورط إيران، فإنه ينبغي زيادة تكثيف الضغط عبر مجلس الأمن لشجب إرهاب إيران وزيادة عزلتها الدولية باعتبارها دولة مارقة.
وعلى الرغم من التشاؤم الذي يطغى على نقاشات الخبراء في القانون الدولي حيال إيجاد ضوابط فاعلة وشاملة، ومعايير قوية تتعلق بتصميم وتصدير واستخدام المسيرات ونقل التكنولوجيا العسكرية بهذا الصدد، يظل الاستهداف الدبلوماسي للشركات المصنعة في أوروبا والصين التي تزود إيران بالمكونات الضرورية والكاميرات الرقمية والمحركات هو التحرك اللازم. فالوسائل الدبلوماسية مع دول وشركات بعينها مثل تلك التي أشارت إليها تقارير لجنة العقوبات الخاصة باليمن ستسهم في تجفيف المصادر التي تغذي الإرهاب الإيراني.
إن سياسية التحالف الناجعة لاستهداف القاعدة اللوجيستية والعملياتية التي طورتها إيران في المناطق الواقعة تحت سيطرة الميليشيات الحوثية وتحييد قدرتها على إطلاق مزيد من المسيرات بما يتفق مع القانون الإنساني الدولي وقواعد الاشتباك. واستهداف مصادر ونقاط التصنيع وورش التجميع في صنعاء والمناطق الأخرى الواقعة تحت سيطرة الحوثيين هو هدف مشروع في القانون الدولي بما في ذلك استهداف الأفراد والخبراء ممن تلقوا تدريباً عالياً في عمليات التصنيع.
ويكمن الجهد الأهم للتحالف في مواجهة الخلل الكبير لغياب مؤسسات الدولة في المناطق المحررة، وغياب هياكل وشبكات الأمن والاستخبارات والقوات البحرية وقوات خفر السواحل اليمنية التي يمكن من خلال تفعيلها، تنفيذ مهمات استراتيجية لدعم عمليات التحالف في مراقبة سواحل اليمن الممتدة لألفي كيلومتر في خليج عدن وجنوب البحر الأحمر، ونقاط التهريب في المهرة وسواحل شبوة وأبين وعدن ولحج والحديدة وموانئها الثلاثة التي يستخدمها الحوثيون لتهريب لوجيستيات حربهم بالوكالة. ويبقى التهريب وتجارة أمراء الحرب، هما التحدي الأكبر الذي يطيل أمد النزاع اليمني، ويعيق قدرة التحالف على القضاء التام على احتواء التوسعية الإيرانية في الإقليم.
وأمام إصرار إيران على نشر المسيّرات في المنطقة، وزيادة غطرستها مع قرب التوصل إلى الاتفاق النووي الذي سيوفر لها مليارات الدولارات من الأرصدة المجمَّدة والتي ستذهب حتماً ليس لصالح تحسين مستويات معيشة أبناء الشعب الإيراني، بل لصالح وهم مشروعها التوسعي وتمويل أدواتها الإرهابية وشراء مزيد من المكونات لتطوير صناعة الصواريخ والمسيرات، فإن الاستراتيجية الناجعة التي تتبعها دول التحالف في توطين وتطوير صناعة المسيرات واستخدامها الواسع في مسارح العمليات والاستفادة من التجارب المكتسَبة لاستهداف ورصد وتحييد المراكز الحيوية للميليشيات والقيادات الحوثية سيؤكد للجميع أن اللعب بالنار ستكون كلفته كبيرة على إيران وأذرعها الإرهابية، فيما تتزايد الحاجة لتمكين الجيش الوطني اليمني من سلاح المسيرات لاستخدامه في مسرح العمليات حتى لا يبقى حكراً بيد الحوثيين.
* نقلا عن ” اندبندت عربية”