عادة ما أراقب التفاصيل الصغيرة، أجمعها، أربط بينها، وأحاول فهمها، لأنها هي من تبني الصورة الأكبر لما يجري في السعودية من عملية تغيير وإصلاح.
ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عندما أعلن عن رؤية المملكة 2030 لم يكن يقدم برنامجاً تسويقياً صعبَ التحقق، أو حملة ترويجية شكلانية أمام المجتمع الدولي، بل كان يعنيه أن يعيش الجيل الجديد من السعوديين في دولة مدنية حديثة، تسودها العدالة الاجتماعية، ويحترم فيها القانون، ويمارس فيها المواطنون والمقيمون حرياتهم الاجتماعية دون تضييق أو وصاية من أي جهة أو فرد.
كلما عدتُ إلى وطني السعودية من بلد إقامتي في الخارج، آمنت بأن هذه الدولة بقيادتها وشعبها تسير نحو الوجهة الصحيحة: دولة متعددة الخيارات والثقافات، متخففة من أغلال الماضي، متطلعة نحو التنوير والتنمية، وبناء اقتصاد قوي متنوع مستدام، وترسيخ دولة المؤسسات.
ألمس ذلك من خلال الأحاديث، سواء مع بعض المسؤولين، أو الأصدقاء الصحافيين، كما النقاشات في العديد من المجالس التي أزورها، فضلاً عن الأحاديث الجانبية مع المواطنين، فتياتٍ وشباناً، والذين اِلتقيهم في المقاهي والمطاعم التي تعجُ بحياة اجتماعية تعطي إشارات قوية وواضحة عن الوجهة التي تتجه لها رؤية المملكة 2030، في ترسيخ جودة الحياة والحريات الاجتماعية تحت سقف القانون.
من التفاصيل الصغيرة التي لفتت انتباهي في زياراتي الأخيرة، حيث كنتُ أذهب إلى أحد المقاهي الجديدة في محافظة القطيف. في هذا المكان تشعر أنك في مشربٍ أنيق، نظيف، أثاثه مرتبٌ دون تكلفٍ، ومستوى القهوة والشاي الذي لديه أفضل من عددٍ من المقاهي المنافسة حتى في مدنٍ أكثر ازدحاماً وشهرة.
في هذا المقهى الذي يمكن تصنيفه بأنه بمستوى مثيلاته الراقية في الرياض أو دبي أو المنامة أو مراكش، كانت تعد قهوتي بنت سعودية، اسمها زينب، وتقدم لي كوباً من البُنِ اليمني الذي عرفت محبتي له، وفي إناءٍ من السيراميك، فأنا من أعداء الأكواب الورقية والبلاستيكية، لضررها الصحي أولاً، ولأنني لا أستذوق طعم القهوة فيها ثانياً.
في الأسبوع ذاته، ذهبتُ إلى العاصمة الرياض، في فندق حميمٍ تشعرُ فيه وكأنك بين أهلك، كانت تعد قهوتي فاطمة، وهي فتاة سعودية أيضاً في مقتبل العمر مثلَ زينب.
بكل أدب واحترام وابتسامة، كان الكوب يصلني، وكنتُ أستمتع به.. هذه التفاصيل الصغيرة، رغم هامشيتها في نظر البعض، إلا أنها ودون مبالغة، تبني المشهد الأكبر لدولة تريد أن تكون منافسة للدول الصناعية الكبرى، وتتحدى الصعاب، وتمنح الجيل الجديد الأمل بمستقبلٍ لن يكون سهلاً، إلا أنه لن يكون مستحيلاً.
التغيير لم يطل السطح والظاهر كما يتصور البعض، بل تسرب للأعماق، لعلاقة الناس مع بعضها البعض، ونظرتهم لأهمية تعايشهم بسلام، واحترامهم لتنوع الثقافات والأفكار، وأن المصلحة الوطنية لا يمكن أن يختطفها فردٌ أو تيارٌ بحججٍ وأفكار حزبية أو مذهبية أو مناطقية ضيقة، وإن كان الطريق طويلاً، وهنالك الكثير مما يتطلب إنجازه، والأفكار الماضوية التي على المجتمع التحرر منها. لقد كانت زينب، وفاطمة، ومحمد، وسلام، ومها، وغيرهم آلاف الفتيات والشباب السعودي، أدلة دامغة لا تخطئها العين على التغيير في التفكير وأسلوب الحياة، سواء من خلال النضج الذي بدأ يتبلور لديهم، أو شغفهم في التعلم وعدم خوفهم من التجريب، أو احترامهم لبعضهم البعض. بالتأكيد هنالك سعوديون ليسوا على هذه الشاكلة، أو يتبنون أفكاراً أخرى، ومن حق هؤلاء أن تكون لهم قناعاتهم، طالما أنهم لا يُكرِهونَ أحداً عليها، ولا يحرضون على العنف والإرهاب؛ وحتى هؤلاء الكثير منهم يرقبُ المشهد، ويتغير دون أن يعي من الداخل، ليجد نفسه بعقلٍ مختلفٍ وإن بعد حين.
*نقلاً عن صحيفة “الرياض“