تسعى “جدلية الرواق” التي انتشرت في وسائل التواصل مؤخراً إلى استنكار جزء من توسعة المسجد الحرام بمكة، زعماً أن في ذلك مساسا بالمعمار العثماني، وتهدف هذه الادعاءات التي لا أصل لها إلى نشر أفكار باطلة، وإلى إشغال الناس عن متابعة منجزات توسعة المسجد الحرام بآراء تصادمية، من أجل نسف تاريخ طويل من عمارة المسجد الحرام، وتقزيمها، ونسبتها جملة وتفصيلاً إلى العثمانيين الأتراك.
واتخذت هذه الجدلية في سبيل ترويجها أدوات وهمية لا أساس لها، فالأروقة التي تعد جزءاً من معمار المسجد الحرام بدأ بناؤها منذ عهد الخلافة الراشدة، ووصلت إلى شكلها النهائي في العهد العبّاسي، ولم يُضف على معمار الحرم إلا لمسات طفيفة ويسيرة في زمن السلطنة العثمانية، لا مساس لها بالجوهر، ولا زيادة لها في المساحة.
ويكشف كتاب “جدلية الرواق: أزمنة العمارة المكّية للمسجد الحرام” وهو من تأليف “يحيى محمود بن جنيد” وإصدار دار الغرب الإسلامي، أن تكوين المسجد الحرام العمراني بدأ في عهد الخلافة الراشدة، وأخذ شكله النهائي في العصر العباسي، واستمر شكله وتصميمه على ما هو عليه حتى عهد الدولة السعودية، وقد حدثت بالفعل أعمال فيها عناية بعمارة المسجد الحرام، من حيث التجديد والترميم، في العصور التيتلت الدولة العباسية، وشارك فيها ملوك وسلاطين وأمراء ووزراء وأعيان من شتى أنحاء العالم الإسلامي، ولكن المسجد الحرام مساحةً وشكلا ظل كما كان عليه في عهد الخليفة المهدي، فيما عدا تغيّر سقفه من الساج إلى القباب، عندما جدّد بنيانه السلطان سليم، وانتهى ذلك في عهد ابنه السلطان مراد، وقد ورد في شاهد كُتِب سنة 984هـ أن إسهامات السلطان سليم وابنه مراد كانت مقصورة على “تجديد معالم المسجد الحرام”، و”تعمير ما تضعضع مِن أركانه بعدما كانت تنقضّ عوالي جدرانه؛ فجُدِّد بنيان حرام الله وسوره”، و”رَفع القباب موضع السطح المبني بالأخشاب”.
لقد مرّ تكوين المسجد الحرام بمراحل في تاريخ الإسلام، فكان في العهد النبوي وخلافة أبي بكر فضاءً يحيط بالكعبة، ثم وسّعه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان، ولقي عناية في ظل حكم عبدالله بن الزبير، وجرى تطويره في عهد الأموي على يد الخليفة عبدالملك بن مروان وابنه الوليد، وزاد فيه الخليفة العباسي أبو جعفر على نحو يساير حركة الحجيج وقاصدي مكة، حتى جاء المهدي العباسي، فأجرى التوسعة الكبرى، وأضاف إلى المسجد الحرام ضعفي مساحته السابقة، وأضاف العباسيون بعده إضافات يسيرة، ولكن عمارة المسجد الحرام وشكله وهندسته وطابعه المعماري ظلت على ما كانت عليه في عهد المهدي حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري.
ويبيّن وصف ابن جبير أن عمارة المسجد الحرام العباسية المهدية ظلت متماسكة إلى القرن السابع الهجري، وعلى ذلك يدل الوصف المطول الذي قدّمه الرحالة المغربي ابن بطوطة، وهو يشير إلى أن عمارة المسجد الحرام ظلت متماسكة حتى القرن التاسع الهجري، والوصف الذي قدمه المؤرخون حتى تلك اللحظة ينطبق على معمار المسجد الحرام، ويدل على أن العثمانيين الأتراك لم يضيفوا عليه في القرن العاشر إلا ما يتعلق بالتجديدات والترميمات، وقد سبقهم المماليك إلى بعض ذلك، الذين أسهم بعضهم في العناية به ترميماً وعمارةً، ولكن من دون أي زيادة عما كان عليه وضعه في العصر العباسي، وذلك هو الشأن في العصر العثماني، فقد ذكر المؤرخ ابن فهد ما جرى من تعديلات كان معاصرا لها، ومنها العناية بموضع أتباع مذهب أبي حنيفة من المسجد وتبليطه وبناء قبّة عليه.
لقد أخذ المسجد الحرام شكله العمراني النهائي في العهد العباسي، ومرّ بمراحل، وجرى تطويره وتشكيله وتزيينه بإشراف من أبناء الأسر المكية العريقة، مثل: آل ابن ظهيرة القرشي، وبتخطيط من مهندسين مكّيين مرموقين، مثل: عبدالرحمن بن محمد بن علي بن عقبة المكّي، الذي لقب بمهندس الحرم، وقد كان خيّراً ديّناً. ومثل: علي بن شمس الدين المكي، الذي أسهم في خطة إعادة بناء الكعبة بعد أن تهدّمت أجزاء منها. وشارك في ذلك فنانون نقّاشون متميزون، شكّلوا مدرسة فنية في مكة، ومن أبرزهم عبدالرحمن بن فتوح بن بنين بن عبدالرحمن المكي المعروف بابن أبي حرَمي، وقد طار صيته في الآفاق، وطُلبت أعماله في بلدان كثيرة خارج الحجاز.